الأحد 19 مايو 2024
أخبار الشرق

مُفردةٌ واحِدة.. قصيدةٌ بلا مُنتهى !

هذه مقدمة وضعتها لديواني “غيمة هوميروس” الذي صدر عن دار المدى ببغداد 2023.. طرحتُ فيها حالة في الكتابة الشعرية. ما رأي الشعراء والنقاد؟

….

حتّى تكتُب قصيدةً.. لا أعتقدُ أنّكَ ستكُون بحاجة لمُعجم “لسان العرب” أو “العين” أو “تاجُ العرُوس” أو غيرها من المُجلّدات الحافلة بمتُون العربيّة وألفاظها التي تجاوزت ملايين المُفردات، يكفيكَ قليلٌ من تلكَ الأبجديّة لتكتُب ما تشعُرُ أنّهُ من  القريض أو الشّعر أو ما يُلامسُه من معنى، فالقصيدة لا تختلفُ عن بناءٍ هندسيٍّ يمتزجُ فيه الإسمنتُ بمواد أخرى يُمكنُ أن نعثُرَ عليها في كلّ مباني العالم.. تجدُها في طوكيُو ودلهي وشيرَاز وبغداد وطرابلس ووهران ورُوما وليمَا وباماكُو ونيفادا.. كما هو الشأنُ بالنّسبة لمفرداتِ اللغة التي تختلفُ في نُطقها أو كتابتها، لكنّها تصنعُ نصّا من السّرد أو الشّعر، نعثُر عليها لدى كلّ الشّعوب باختلاف ألسنتها. هُم قرأوا المتنبي وشوقي وقبّاني ودرويش ومالك حدّد، وقرأنا نحنُ طاغور وشكسبير ولامارتين ونيرُودا وحمزاتوف وبُوشكين وحِكمت وشعراء الهايكُو اليابانيين وتبادَلنا الدّهشة والإعجاب..

قال أحدُهم إنّ فيكتُور هيجُو لم يُوظّف في متنِه الشعريّ كاملاً أكثر من ثلاثة آلاف مُفردة وهو من أعظم شعراء فرنسا، وأعرفُ شاعرًا جزائريًا، هو حمري بحري، لم يتجاوز استخدامَ أكثر من ثلاثمائةِ كلمة غير متشابهة في مجموعة شعريّة من مائتي صفحة، وهي ماتعةٌ لُغةً ورؤيةً، فكلاهُما تعامل مع نصّه ضمن المساحة التي اختارَها كمعماريّ لُغويّ مُبدع، قد يُسرف في المفردات فيأخذ قارئه بعيدًا في تجاعيدِ نصّه، أو يقتصدُ في المفردات حتّى لا يتيهَ القارئُ والمتلقّي في شِعابِ المعنى. لكلّ هذا أخذ التجريبُ حيّزًا أوسَع في تاريخ الكتابة، فتجد الملحمة الشعريّة التي تأخذُ منك أيّامًا لتُنهيها، وتجدَ قصيدة الومضة والهايكُو التي تبتلعُها في ثواني عابرة..

لستُ ناقدًا ولا مُنظّرًا، لكنّ ممارسة اللغة علّمتني أنّ الأمرَ لا يتوقّفُ عند البحثِ عن غريبِ الألفاظ، وفي هذا تنطّعٌ وتحاملٌ على القارئ، للتعبيرٍ عن قُدرة في التحكّم والتّعقيد لتجاوُز فهْمِ الآخر أو إثارة قلقِه، بينما الأمرُ يتعلقُ بالدّهشةِ التي يُمكنُ للنصّ أن يَحملها لقارئه، فيُوفّرُ لهُ مِيمَ المُتعة ومِيمَ المعرفة ومِيمَ المُفردة التي لا تهدمُ رُوحَ النّص إذا كانت غايَةً مقصودة لمبْنى لا وسيلة معقُودة بمعنى. النّصُّ الشعريُّ، لا يحتاج إقامة جلسة مُغلقة مع الفراهيدي والزمخشري والرازي وابن منظُور والبحثِ في غريبِها وأكثرِها مُعجميّة، بل مع ما يقتضِيه حالُ النّص من مُفرداتٍ تؤدّي غرضها وتفرضُ احترامَ الآخر لها..

لقد تجلّت عبقريّةُ اللغة العربيّة في ثراء قاموسها وتنوّع ألفاظها، مما جعلها أكثر لغاتِ الأرض “إنجابًا” للمفرداتِ وما يُشتقّ منها، فلا غرْو أن يكونَ للإبلِ أكثر من خمسة آلاف اسم وصفةٍ، ومثلها للأسد والسّيف والمرأة والمشاعر من فرح وحزن.. وهذا لا يعني أنّ الكاتب المُبدع يستعرضُ مهاراتهِ باستخدام هذا الرصيد اللغوي، فيثقلُ على نفسه وعلى المتلقّي واللغة نفسها. تكفيه المفردة التي تؤدّي المعنى وتحقّق الدلالة.

لا شكّ أنّ الذي يعشقُ اللغة العربيّة ويطربُ لها، لا يستسيغُ إطنابًا في ضخّ النصّ الأدبيّ بكمّ هائل من المفردات المتجانسة فينتهي إلى حشوٍ لا طائل من ورائه، يفقدهُ المتعة ويُحيلُ صاحبه على سلّة المُهملات.. فيمُوتُ النّص.

في “غيمة هُوميرُوس” سيشعُرُ القارئُ وكأنّهُ يقرأُ نصّا واحدًا بعناوين مختلفة، ويلمسُ أحيانًا تكرارًا لعديد المفردات، في خريطة قصائد ومقطوعات الدّيوان، وتلك هي حالةُ الكتابة خاصّة إذا كُتبتْ في بيئةٍ واحدة وتوقيتٍ متقاربٍ، إذ لا يعني أنّ استخدامكَ مُفردةً في هذا النّص يفرضُ عليكَ عدم استخدامها في نصّ آخر.. إنّها مُكوّناتٌ طبيعيّة في بنيَة متُون الشّعر والخطابِ عمومًا، وهيَ جزءٌ من هويّة الشّاعر، وربّما من العناصر المُشكّلة لهويّتِه اللغوية، وهيَ أيضًا ليست تعبيرًا عن فقْرٍ لغويّ لدى الشّاعر. سيجدُ القارئ تقاطُعًا في كثيرٍ من المعاني، وتقاربًا في بعضِ الصّور.

إنّ ممارسةَ الشّعر والتعاطي مع اللغة، وما كنتُ أستشعرهُ لدى المتلقّي، في تجربةٍ تفوقُ الأربعين عامًا، جعلني أصلُ هذا السّقفَ من الفهْم، إذْ أنّني هكذا كنتُ أشعرُ باللغة حين أوظّفُها، وهكذا أفهمُ الاختلافَ في أشياءِ القصيدة عندما يسكُنُ أحدُنا الآخر..

هذا أنا في غيمتي قصيدةُ مفتوحة على حديقةٍ من مُفرداتٍ يختلفُ إيقاعُها ويتنوّعُ عطرُها لكنّها تمنحُكَ ما أتمنّاهُ من رغبة، وما تتمنّاهُ من دهشة. أنتَ، أيها القارئ، ستظلُّ غيمتي التي أنتظرُ قدُومها لتُمطرَ يومًا قصائدَ مختلفة قريبًا منك وبعيدًا عن هُوميرُوس..

عز الدين ميهوبي

مواضيع ذات صلة

الكاتب أحسن تليلاني يقدم كتابيه الجديدين اليوم بمكتبة عنابة

akhbarachark

إجراء تمرين محاكاة حول نشوب حريق بالموقع الأثري هيبون

akhbarachark

انطلاق الحفريات العلمية الأولى بالموقع الأثري قصر بغاي

akhbarachark