لم يكن حضور ولاية عنابة في ولاية البيض حدثا عابرا، بل كان موعدا ثقافيا استثنائيا جمع بين عبق الساحل وروح الهضاب، في أسبوع احتفائي أبرز مدى غنى الثقافة الجزائرية وعمق روابطها بين مختلف مناطق الوطن.
فمنذ الساعات الأولى لافتتاح التظاهرة بدار الثقافة محمد بلخير أول أمس، بدا واضحا أن الجمهور مقبل على تجربة فنية وثقافية واسعة تجمع بين التراث، الفنون، الإبداع والحرف الأصيلة. وقد شهد حفل الافتتاح حضورًا رسميًا معتبرًا واهتمامًا من مختلف الفاعلين الثقافيين، وقد تميز بعروض تراثية في طابع العيساوة قدمتها فرق فنية من عنابة، فأضفت على الأجواء نكهة روحية تشبه المدينة التي جاءت منها. كما عرف البرنامج افتتاح معارض متنوعة شملت الحرف التقليدية، الأزياء، المخطوطات، اللوحات التشكيلية، والكتب التاريخية، وهي معارض تعرّف الزائرين على ملامح الثقافة العنابية من مختلف زواياها. وتواصلت فعاليات الأمسية الفنية بعرض في طابع المالوف، قدمه الفنان مراد راشف، ليعود بالجمهور إلى الأصالة الموسيقية التي اشتهرت بها عنابة وقسنطينة. وبعده اعتلى الفنان زكرياء توهامي الخشبة ليقدّم عرضًا في الطابع الشعبي، مزج فيه بين الإيقاع والحضور المسرحي، مقدّمًا حفلًا يجمع بين الرقي والبساطة الشعبية التي تلقى دائمًا إعجاب الجمهور.
تراث عنابة والبيض… حكاية وطن واحد بلهجتين ثقافيتين
يمثل لقاء عنابة والبيض في أسبوع ثقافي واحد فرصة نادرة لوضع تراثين مختلفين في إطار واحد، فكل منهما يروي حكاية منطقة فريدة من الجزائر. فعنابة، المدينة الساحلية ذات التاريخ الضارب في القدم، تحمل إرثًا حضاريًا غنيات تشكل عبر قرون من التنوع. تشتهر بطابع المالوف والعيساوة، إضافة إلى الحرف التقليدية كالنسيج، النحاسيات، وصناعة الأزياء التراثية. كما تعكس معالمها الأثرية مزيجًا جماليًا بين الحقبات الفينيقية، الرومانية والعثمانية، ما يجعلها واحدة من أكثر المدن ثراءً في الموروث الثقافي. أما ولاية البيّض، فهي مرآة لتراث الهضاب العليا وصحراء الغرب الجزائري. تعرف المنطقة بفنون الفروسية والبارود، الصناعات الجلدية، اللباس التقليدي الخاص بالبادية، والشعر الملحون الذي يشكل ذاكرة حية لسكان المنطقة. ويضيف طابع الضيافة والكرم البدوي رونقًا خاصًا للتراث المحلي، ليشكل معالم ثقافية مميزة تختلف في الشكل لكنها تتقاطع في الجوهر مع بقية ولايات الوطن. ويمثل هذا التلاقي بين تراث الساحل وتراث الهضاب تجسيدًا حيًا لشعار التظاهرة: “ثقافتنا توحدنا والجزائر تجمعنا”، حيث أظهرت الفعاليات أن الاختلاف الثقافي بين المناطق لا يعكس تباعدًا، بل يشكل فسيفساء تجتمع فيها كل الألوان لتصنع هوية وطنية واحدة.
تعزيز التبادل الثقافي بين الولايات
ويؤكد القائمون على التظاهرة أن هذا الأسبوع يهدف إلى تعزيز التبادل الثقافي بين الولايات، ليس فقط عبر العروض الفنية، بل أيضا من خلال اللقاءات المباشرة بين الفنانين، الحرفيين، الباحثين والمهتمين بالتراث. وهي مناسبة تفتح فيها آفاق جديدة للتعاون، سواء من خلال المشاركة في معارض مستقبلية أو عبر مشاريع مشتركة تهدف إلى تثمين الموروث الوطني والترويج له داخل وخارج البلاد.
سلمى حطاب
