إن سياسة التسوية التي اضطر إلى انتهاجها ديغول بخصوص القضية الجزائرية، لم تكن أحادية المنهج فهو من جهة كان يواجه غلاة المعمرين، لأجل تكريس مبدأ حق تقرير المصير، ومن جهة أخرى كان يسعى إلى تحطيم البنية التحتية لجيش التحرير الوطني عن طريق العمليات العسكرية الكبرى، والخروج بفرنسا عبر نهاية مشرفة.
وفي ذات الوقت سعى إلى محاولة شق صفوف قيادة الثورة من خلال فكرة سلم الشجعان بغية ايجاد قوة ثالثة، حتى وإن لم يكتب لها النجاح لسحب البساط من تحت جبهة التحرير الوطني، فإنها ستنافسها وقد يعول عليها في المستقبل، وهو ما يفسر المحاولة الفاشلة لتوقيع هدنة مع الولاية الرابعة بما عرف باسم لقاء الإيليزي في 10 مارس 1960م، وأمام هذا الفشل الذريع الذي مني به ساسة ديغول اضطر إلى الرجوع إلى مبدأ حق تقرير المصير في إطار الخطاب الذي وجهه في 14 جوان 1960م حيث صرح بمايلي:” إني ألتفت مرة أخرى باسم فرنسا إلى قادة الثورة…” وهو ما مهد لمحادثات مولان في جوان 1960م.
وقائع مفاوضات مولان
بعد خطاب ديغول في 14 جوان 1960م الذي دعا فيه قادة الثورة لإجراء محادثات، بادرت الحكومة المؤقتة بالرد الايجابي على ذلك، وسعت إلى امكانية التحضير لقمة تجمع ما بين الرئيس فرحات عباس والجنرال ديغول، وهو الأمر الذي رفضه هذا الأخير، فقامت بإيفاد السادة أحمد بومنجل ومحمد الصديق بن يحي رفقة محمد حقيقي بن عمر من وزارة التسليح والاتصالات العامة بتاريخ 25 جوان 196م إلى مقاطعة مولان الواقعة بمحاذاة نهر السين جنوب شرق باريس، وهناك كان في استقبالهم الوفد الفرنسي المتكون من والي مقاطعة مولان روجي موريس والأمين العام للقضايا الجزائرية والجنرال كاستين والعقيد ماتون، محادثات دامت قرابة أسبوع إلى 29 جوان 1960م، ظل فيها وفد جبهة التحرير الوطني منعزلا عن العالم الخارجي.
مضمونها
خلال المحادثات ركز الوفد الفرنسي على إجراءات وضع السلاح ومصير جنود جيش التحرير الوطني، في الوقت الذي ركز فيه وفد الجبهة على أسس انطلاق المفاوضات المبنية على شروط وضمانات حق تقرير المصير.
وهو ما جعل حديث الطرفين أشبه بحديث الطرشان، مما دفع بالجنرال ديغول إلى توقيف المفاوضات يوم 29 جوان 1960م.
والظاهر أنه لا حكومة ميشال دوبريولا الجنرال ديغول كانا مستعدان للاعتراف بممثلي جبهة التحرير الوطني، وهو ما يفسر رفض ديغول محاولة الحكومة المؤقتة لتنظيم قمة تجمع بينه وبين فرحات عباس، وسعيه لجس نبض قادة الثورة فقط، وتقييم الحدود التي قد يتنازل عنها، فضلا عن تحضيره لرأي عام يؤمن بفكرة المفاوضات، وبالتالي فإن محادثات مولان لم تخرج عن مبادرة سلم الشجعان.
تقييم المفاوضات
يبدوا أنه رغم فشل محادثات مولان فإن الثورة الجزائرية قد حققت انتصارا كبيرا، ذلك أن أسس المحادثات انطلقت من خطاب 14 جوان 1960م الذي بدوره قلب شرعية التواجد الفرنسي ذاته، بدعوة ديغول لممثلي جبهة التحرير الوطني لإجراء محادثات، وهم الذين ظلوا إلى وقت قريب خارجين عن القانون، أضف إلى ذلك أن الرد الإيجابي للحكومة المؤقتة بتاريخ 20 جوان 1960م بإيفاد مبعوثين عنها إلى باريس كان في حقيقة الأمر دهاء سياسيا من قادتها، قصد تفويت الفرصة على ديغول للعدول عن فكرة تحقيق وقف اطلاق النار مع الولايات ـ في إطار سلم الشجعان ـ
والأكثر من ذلك هو أن وقع المحادثات ذاته شكل بالنسبة للشعب الجزائري نصرا كبيرا وهو يرى في فرنسا التي لا تقهر تتفاوض مع عدوها بمنطق مهزوم.
المرجع:
أحمد مسعود سيد علي، تطور الثورة الجزائرية سياسيا وتنظيميا 1960-1961م من خلال محاضر مجلسها الوطني المنعقد بطرابلس 09-07 أوت 1961م.
