يرى مؤرخون أن تدوين التاريخ ليس هو الغرض في حد ذاته، بل الغرض الأسمى هة تدريسه وتلقينه لأجيال بغية الحفاظ عليهم وتكوين مجتمع متماسك وموحد، تشده رابطة الأصالة ومقومات الشخصية الوطنية الواحدة التي تضرب بجذورها في عمق التاريخ، سقاها الملايين من الشهداء بدمائهم الزكية وفدوها بأرواحهم الطاهرة. إن الثورة التحريرية عكس ما يظن البعض، لم تتم في الجبال فقط بل وصلت شرارتها حتى المدن الصغرى والكبرى، التي كان يظنها المستعمر الفرنسي في مأمن من العمليات الارهابية كما كانت تصفها فرنسا، ذلك أن مدن جزائرية عدة سجلت حضورها الهام في الثورة التحريرية. وإذا كان أول نوفمبر قد أعطى اشارة الانطلاقة لهذه الثورة الشعبية لتقوم على قوى الاستعمار الاستيطاني، فإن مؤتمر الصومام قد أرسى المبادئ والأسس الفلسفية والتنظيمية للثورة التي مهدت في مجملها طريق الوصول إلى تحقيق الاستقلال والسيادة على أرض الجزائر.
التقسيم الجغرافي والوضع التنظيمي للثورة بعنابة
لقد بدأ التنظيم الثوري يتبلور بشكل واضح بعد مؤتمر الصومام 1956، فقد قسمت الجزائر على أساس معطيات تراتبية واستيراتجية إلى 6 ولايات، وكانت عنابة ضمن الولاية الثانية تحمل رقم المنطقة الرابعة، والمنطقة بدورها مقسمة إلى أربعة نواحي فالناحية الأولى هي عنابة والثانية هي إيدوغ والعلمة والثالثة هوارة والدباغ والرابعة قالمة وماونة، وتعتبر هذه الأماكن الحدود الترابية للمنطقة الرابعة، وكل ناحية لها ثلاثة أقسام، القسم الشمالي يأخذ جزء من المدينة مثل سيدي عيسى وبني محافر والجسر الأبيض، القسم الغربي والوسط يأخذ الجزء الثاني من المدينة لاسيتي، واد الذهب وبوحديد، والقسم الشرقي يأخذ الجزء الثالث من المدينة جوانو فيل، سيدي سالم، بوحمرة وكل قسم تتبعه مجالس. والمجالس هذه لها دور هام فهي تتكون من مناضلين مدنيين، مهامهم هامة بل ورئيسية كمسؤولين عن الحي، يقوم المناضل بجمع الاشتراكات وكتابة قوائم المشتركين ويجمع الأخبار ويبث الدعاية للثورة، ويطبق كل ما يأتيه من الدعاية مثل مقاطعة الانتخابات وشن اضرابات ومقاومة الخونة.
عنابة في الفاتح نوفمبر 1954.. صفحات التاريخ التي لا تطوى
لقد كان أن يمر هذا اليوم دون أي حدث، لو لم تقم الدوريات العسكرية الملثمة والمسلحة بإقامة الحراسة المشددة على المباني الادارية وتنظيم الحواجز الأمنية على مشارف المدينة، وقد تم استدعاء كل من يشغل منصبا وظيفيا مهما كان عسكريا أو إداريا للعمل، ورغم توجه جماعة الأقدام السوداء إلى مقر المدينة ومراكز الشرطة للاستفسار عن سبب هذه التحركات التي تشهدها المدينة، إلا أنهم لم يتحصلوا على أي جواب مفسر من طرف الجهات الرسمية، وسرعان ما بدأت حملة الاعتقالات الواسعة التي قامت بها وحدات الدرك الفرنسي في صفوف السكان المسلمين وخاصة المشكوك في انتمائهم للحركات والتنظيمات الوطنية باختلاف مشاربها. ومع حلول الساعة الثالثة مساء بدأت المعلومات تتسرب عن اندلاع معارك ومشادات في جبال الأوراس أو بالتحديد في باتنة، آريس ومشونش، هذه المعلومات التي أكدتها الأخبار الملتقطة من الاذاعات العربية، في صورة اذاعة صوت العرب من القاهرة، لأن الاذاعة الفرنسية la radio d’alger ووسائل الاعلام الفرنسية عامة، كانت في ذلك اليوم مهتمة بسرد وقائع الاحتفالات الدينية دون إدراج أي معلومة عن معارك جبال الأوراس، وفي صباح الثاني نوفمبر 1954 تم الشروع في توزيع المنشور السري الذي يحمل عنوان “بيان أول نوفمبر”، والذي تؤكد في الكتابة العامة لجبهة التحرير الوطني، بداية المقاومة العسكرية ضد النسق الاستعماري المسؤول عن تردي وسوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الشعب الجزائري، ويبين أهداف الثورة والوسائل العسكرية والسياسية المجندة لتحقيقها، وأخيرا يعلن عن تجمع كل الأحزاب الوطنية تحت راية واحدة هي جبهة التحرير الوطني، الأمر الذي دفع كل الشباب الذين كان معظمهم منخرطا في تنظيمات سياسية أو ثقافية، والذين نجوا من حملات الاعتقال الأولى، للصعود الى الجبل والتمركز في كل من جبل ايدوغ والمشروحة، أن ستبدأ العمليات الأولى بقيادة الشهيد باجي مختار والمتمثلة في عملية تخريب السكك الحديدية وتحويل قطارات الشحن القادمة من مناجم الحديد بالونزة، وهكذا انتشرت العمليات في الست أشهر الأولى، لتضم كل الشمال القسنطيني الذي أصبح تحت قيادة الشهيدين ديدوش مراد وزيغود يوسف. ومنذ ذلك الحين لم يعرف أوروبيو “بونة” للذكرى كما يسيمها الأوروبيون الهدوء والراحة بسبب علميات التفجير والاغتيالات التي كانوا عرضة لها، هم وممتلكاتهم في كل مرة، ومن بين أهم العمليات التي لقيت صد لدى الرأي العام عملية 19 أوت 1956 مجزرة عاشوراء.
هذه السياسة الاستعمارية إبان الثورة بولاية عنابة
لقد كانت هذه المرحلة من أصعب وأخصب المراحل التي مرت بها الثورة التحريرية، وهي تلك المرحلة الممتدة ما بين سنوات 1958 إلى 1962، حيث كانت مليئة بالأحداث الجسام التي هزت كيان فرنسا ماديا بخسارة مليار فرنك نفقات يومية لمجابهة الثورة، وبشريا ممثلة في مليون جندي بما في ذلك قوات الأمن والدرك الفرنسي وقوات الحلف الأطلسي، ومعنويا بزعزعة الفكر السياسي وتشتت سياسته وأفشلت مخططات جنرالاته، وقد تجلت سياسة الحكومة الفرنسية بقيادة ديغول في المجال العسكري والسياسي، بداية بتحقيق ما فشل فيه سلفه وهي نية الابقاء على الجزائر فرنسية، من خلال مضاعفة المجهود الحربي بجانب العمل السياسي. ولقد كان مشروع قسنطينة بعنابة، يعتبر أحد الوجوه المكملة للجانب العسكري فتركز على سياسة الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والبحث عن العملاء السياسيين، الذين بإمكانهم تمثيل الجزائر لدى السلطة الفرنسية، وكان يهدف مشروع قسنطينة بعنابة إلى اقامة مصنع الحجار الذي لم يكتب له النجاح بسبب عرقلة جبهة التحرير له من جهة، والأزمة المالية التي تعيشها فرنسا من جهة أخرى.
السجون والمعتقلات بعنابة.. ورقة المستعمر الخاسرة
إن فكرة السجون والمعتقل ومراكز التعذيب والاستنطاق كانت وسيلة من وسائل الحرب التي استخدمها الاستعمار لقهر المناضلي وكسر شوكة الثورة عموما، وقد اشتدت هذه السياسات مجيئ ديغول الى السلطة مما أعطى إشارة واضحة للمزيد من المعتقلات والسجون وجعل لها نظاما محكما يستند إلى إداريين ومختصين نفسانيين وسياسيين وذو مقدرة على القمع والقهر. وكان أول مراكز الاعتقال بمنطقة “الملاحة” وهو أول معتقل افتتح سنة 1956 يقع شرق غرب عنابة قرب المطار، كذلك معتقلا آخرا يسمى “الشرفة” وكان يصل عدد سجنائه إلى 515 معتقلا ويقع ما بين واد العنب وبرج نام شرق عنابة ويحيطه أسلاك شائكة مكهربة، وكانت الحياة داخل هذه المعتقلات صعبة للغاية من حيث المبيت، كونهم غير مؤمنين أو من حيث الأكل فكانت الوجبات تقدم ناقصة وكثيرا ما يتعرض المعتقلون إلى التسمم الغذائي، زيادة على العمل الشاق الذي يوكل إليهم وكانت أعمالا تشبه أعمال السخرة بدون أجر مثل حفر الخنادق طول النهار ثم ردمها أو رصف الطرقات الجبلية أو قطع الأشجار أو قلع الصخور ثم تفتيتها بالمطرقة.
هذه أبرز أسماء مراكز التعذيب العسكري بعنابة
كانت مراكز التعذيب والاستنطاق كثيرة وأهمها مركز القصبة العسكري وهذا المركز عبارة عن ثكنة تركية قديمة الاستعمال، أعيد ترميمها من طرف الجيش الفرنسي منذ احتلاله للجزائر، ويقع وسط المدينة بالحي القديم ويوجد به دهاليز مظلمة بحيي الذي يدخله لا يرى السماء، إذ أن الغرف الضيقة تقع تحت الأرض ويشرف عليها الجيش وفرق من الشرطة السرية بالمدينة وبه من العذاب مالا يخطر على البال. كذلك مركز واد العنب ويقع غرب مدينة عنابة في جهة قريبة من مزارع المعمرين، وكان المسؤول عليه الجيش ابفرنسي وعلى رأسه رائد، وقد استشهد فيه العديد من المناضلين تحت وطأة الحرب، إضافة مركز برج نام وهذا المركز لا يقل عن سابقيه من حيث أنواع العذاب الذي يماس على المناضلين المقبوش عليهم ويشرف عليه المكتب الثاني العسكري وبه من الجلادين حتى اليهود، كما لا يجب نسيان مركز “لادوب”، وفيه يتم الاستنطاق بطرق علمية بسيكولوجية بحيث لا يدخل هذا المكان الا المسؤولون السياسيون والعسكريون، ووضع خصيصا لمقاومة المنظمات السياسية والفدائية والعمل التخريبي، وكان مركزا للمقابلة بيم المتهمين أي بين المناضل المتهم ومسؤوله المتهم أيضا، ويعاد فيه التعذيب بنفس الطريقة القمعية للمركز الذي لم يعترف فيه وفي هذا المركز، كان يتم البث النهائي في القضية لأن “لادوب”، يشرف عليه المكتب الثاني العسكري مع مديرية الشرطة والاستعلامات المخصصة في مقاومة مسؤولي المنظمات داخل الجبهة والجيش، وقد استمرت هذه المراكز الأربعة في انتهاج هذه الأساليب حتى الاستقلال. كما تسجل مدينة عنابة عمليات ثورية هامة لا تنساها صفحات التاريخ بداية بعملية الجسر الأبيض في أكتوبر 1958، كذلك عملية اغتيال العقيد بيجار كما يدعى “رجل البركة”.
المرأة العنابية… عماد الثورة الجزائرية ووقودها
إن المرأة تمثل نصف المجتمع فهي الأم والخالة والعمة والأخت والزوجة والبنت فكانت إبان الثورة من الأوائل الذين احتضنوها بجانب الرجل وجندت في كافة المجالات والميادين فشاركت بكل فعالية في جميع المهام المسندة إليها كالغسل والطهي والتموين ونقل الأخبار وذلك منذ بداية الثورة التحريرية المباركة، فكانت المرأة بحكم وجودها في الريف وسهولة الاتصال بجيش التحرير الوطني تمون الثوار بالزاد وتنقل لهم الأخبار وتربط الاتصالات، كما كانت بحكم وعيها وادراكها لمخططات العدو خير عون وسند لإخوانها المجاهدين، واستطاعت أن تفوت الفرصة على المناورات التي هدفت إلى عزلها عن الثورة، في صورة القرار الصادر عن حكومة فرنسا بحق المرأة في التصويت وأخذها حقوقها كاملة من الرجل بتحريرها وحقها في الترشح ومشاركتها في الانتخابات، وقد أظهرت الأحداث صلابة المرأة العنابية خاصة والجزائرية بصفة عامة إبان الثورة التحريرية المباركة، كما أظهرت قوتها على تحمل الصعاب، حيث أنه وبمدينة عنابة قامت امرأة بإغراء لرئيس شرطة المأمورية الرابعة، بحي “لاسيتي” وقامت باستدراجه بأن صاحبته في سيارته الخاصة خارج المدينة ناحية مزرعة “تامززالي”، فبوغت بفوح من الفدائيين الذين قضوا عليه في الحال، كما أن المرأة شاركت في المظاهرات وكانت في مقدمة الصفوف الأولى تحمل العلم الوطني الجزائري، الذي خاطته بيدها تزغرد وترفع من حماسة ومعنويات إخوانها في المدينة، وكانت في الريف تعمل على مساعدة الجيش بكل الوسائل بحكم وجودها المستمر داخل المشتة والدوار، وهكذا فقد عملت المرأة الجزائرية إبان الثورة التحريرية في مجالات شتى فقد حملت السياح كمقاتلة وساهمت في الحياة العسكرية والمدينة أثناء الثورة، كما دفعت بالابن والزوج والأخ في ميدان الوغي واستقبلت موتهم بمثل ما استقبلت به “الخنساء” نبأ استشهاد أبنائها الأربعة، فلقت أذهلت المرأة الجزائرية العالم عامة وفرنسا خاصة، وعلى هذا الأساس أرادت فرنسا منذ البداية التركيز على هذا الجانب لتدميره وإبادته أي تدمير أصالة المرأة الجزائرية ولكن جميع محاولاتها باءت بالفشل.
إضراب الثمانية أيام بعنابة.. عدالة قضية شعب قبل أي اعتبار
لقد بدأ التنظيم لهذا الاضراب قبل موعده بفترة، وسعى من خلاله مسؤولو جبهة التحرير الوطني إلى تحسيس الشعب بضرورة تصعيد العمل ضد العدو على كل الجبهات خصوصا وأن الثورة قد دخلت عامها الثالث داخليا وعلى الصعيد الخارجي فإن القضية الجزائرية وجدت طريقها إلى المحافل الدولية، فكان قرار الاضراب يستهدف التدليل على أن جبهة التحرير الوطني هي المعبر الشرعي عن إرادة الشعب الجزائري وبأن السيادة هي ملك للشعب بأكمله، فأصدرت جبهة التحرير الوطني نداء إلى الشعب الجزائري بكل فئاته تدعو في إلى الاضراب لمدة أسبوع أي ثمانية أيام من يوم الاثنين 28 جانفي إلى 04 فيفري 1957، وقد استجابت كل الشرائح الاجتماعية بعنابة لتعليمات جبهة التحرير الوطني، حيث شمل الاضراب كل القطاعات الاقتصادية، التجارية والحرفية والادارة والمصالح العمومية كالبريد والسكك الحديدية وأنواع المواصلات والميناء والأسواق العامة. وقد شمل الإضراب كل الأحياء الشعبية بمدينة عنابة وامتد إلى أريافها وقراها، وبلغت نسبة نجاحه 90 بالمائة أو أكثر، حيث التف الشعب الجزائري حول جبهة التحرير الوطني بالإضافة إلى تعزيز مكانة الجبهة داخليا وخارجيا، كما تكبد اقتصاد العدو خسائر معتبرة، على مستوى ميناء عنابة خاصة، كما تكبد التجار وأصحاب المحلات والموظفين خسائر من جراء هذا الاضراب، ولكنهم كانوا واضعين نصب أعينهم عدالة قضية شعبهم قبل أي اعتبار.
ثورة الفاتح نوفمبر.. انتصار عظيم وميلاد دولة جزائرية مبنية على ثوابت دستورية
لقد كان الانتصار عظيما الذي حققته ثورة التحرير خلال الفترة الممتدة من 1954 إلى غاية 1962، لا تتمثل فقط في استرجاع الاستقلال وميلاد دولة جزائرية مبنية على ثوابت دستورية، لكنه يتمثل أيضا في تهيئة الشروط الضرورية في مجال التحولات الجذرية التي تمكن الجماهير الشعبية من المساهمة في الأحداث المتوقعة والمشاركة الفعلية في صنع مصيرها في إطار إيديولوجية واضحة المعالم لأن الثورة التحريرية العملاقة ساعدت على التضامن مع الشعوب وأجبرت الاستعمار الفرنسي على أن يتخلى عن الادارة المباشرة للعديد من الأقطار التي كانت خاضعة له. وقد أكدت الأمة الجزائرية أثناء عهد الاحتلال وسنوات الكفاح المسلح بأن الشعب الجزائري عربي الثقافة وإسلامي الدين ووطني التوجه، وعلى هذا الأساس جاء بيان أول نوفمبر 1954 مبشرا بالنصر المبين، ومعلنا ثوابت جزائرية، وقد نهضت أمة جزائرية في كنف الحرية والاستقلال التام معتمدة على ثوابت وطنية وتجاربا مكتسبة مكنتها من بناء دولة لا تزول بزوال الحكومات والأشخاص، واضحة التوجه الذي يجسد العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس فكانت بحق أمة خلقت لتسود.
أمير قورماط