على الطريق المؤدي إلى تبسة، يستقبل حي “بلغيث” بمداوروش زواره بمشهد غير مألوف في أغلب أحياء المدن الجزائرية.
ظلال وارفة تتخللها نسمات خفيفة، أشجار مصطفة على الجانبين، ونباتات زينة تنتشر في أحواض مبنية بعناية على الأرصفة. لا يمرّ العابرون هنا دون أن يبطئوا الخطى. الشارع نفسه يدعوهم للتأمل. هذه الخضرة لم تنشأ بقرار إداري، ولا بحملة موسمية، وإنما تشكلت من خلال جهود هادئة ومستمرة لأبناء الحي، وعلى رأسهم رجل يشتغل في تصليح العجلات بالحي “علي فارح”.
ورشته الواقعة على حافة الحي صارت منذ سنوات نقطة انطلاق لعناية يومية بالأشجار، تتجاوز السقي إلى التنظيف، تقليم الأغصان، وترميم الأحواض. ما كان يبدو سابقاً مجرد واجب بلدي، صار فعلاً محلياً يومياً، تدعمه أيدي الجيران والمهتمين.
أشجار التوت، الميليا، والجاكارندا تنمو الآن بشكل متناغم، وتخلق مشهداً نباتياً تتخلله شجيرات الورد والزهور العطرية. هذه الجنة الخضراء، أصبحت جزءاً من نسيج الحي، تطل من النوافذ، تحيط بالأرصفة، وتستقبل زوار المدينة.
لكن ما يستحق التأمل حقاً هو تحوّل الفعل الفردي إلى عرف مشترك. ما بدأه “علي فارح” كعادة شخصية، أصبح نمطاً متكرراً بين السكان. البعض يزرع، وآخرون يسقون، وهناك من يشارك بنباتات زينة من حديقته الخاصة. ليس هناك تنسيق رسمي، لكن النتيجة تبدو وكأنها لوحة متكاملة.
في ظل التغيرات المناخية وقلة المساحات الخضراء داخل المدن، يشكّل ما يحدث في حي “بلغيث” بمداوروش نموذجاً عملياً لفكرة صغيرة ذات جدوى كبيرة. الاعتناء بالشجر عمل ممكن، لا يتطلب إمكانيات ضخمة، لكنه يراكم أثراً ملموساً على البيئة وجودة الحياة.
يقول أحد سكان الحي: “حين نفتح النوافذ صباحاً وتستقبلنا الأشجار، نشعر أن المكان يبادلنا العناية. هذه الخضرة غيّرت مزاج الحي بالكامل”.
الطرق لا تصبح خضراء فجأة، ولا تأتي الأشجار بقرار. تحتاج فقط من يحرص على بقائها حيّة. ربما لم يزرع علي كل شجرة، لكنه سقى معظمها، بنى لها الحوض، نظّف حولها، وساهم في أن تتحوّل من مجرد غرس إلى كائن اجتماعي يُشارك الناس ظلّه ويمنحهم هواءً أنقى.
هذا الحي اليوم لا يقدّم مشهداً جمالياً فحسب، بل يُعيد طرح سؤال بسيط ومُلحّ: كيف نُغيّر مدننا؟ ربما الجواب ليس في المشاريع الكبرى، بل في حوض صغير يُبنى حول شجرة على الرصيف.
أكرم بوعشة