شكّلت، مؤخرا ظاهرة التسول، بقلب مدينة عنابة، وبعض البلديات المجاورة، مهنة للمتسولين، الذين راح الكثير منهم إلى ابتكار طرق جديدة في التحايل واستعطاف المارّة من المواطنين.
واتضح من خلال الجولة الميدانية التي أجرتها “أخبار الشرق”، بقلب مدينة عنابة، على مستوى ساحة الثورة، المدينة القديمة “بلاص دارم”، محطات نقل المسافرين، المحلات التجارية والمساجد، أن التسوّل عن طريق مدّ اليد” مهنة” باتت قديمة جدا تتجه إلى زوال، بحيث يعمد الكثير من المتسولين إلى تطوير أساليب وطرقا جديدة لاستعطاف المارّة، بعد أن امتنع الأفراد عن منح نقود للمتسولين بالشوارع، بعدما بات أمرهم مفضوحا، حيث وفور تجولك بقلب مدينة عنابة، يتضح لك تراجع عدد المتسولين الذين يمدون أيديهم بالشوارع إلا قلة منهم، لا تزال متشبثة بهذه المهنة رغم قرب زوالها، حيث لم تعد تجدي نفعا بالنسبة لغالبيتهم، بسبب غلاء المعيشة وانفضاح أمرهم لدى المواطنين، الأمر الذي دفع بالمتسولين إلى ابتكار تصرّفات أخرى يأمل منها أن تكون أفضل لجني المال، ومن أشهرها سلوك احتيالي وتسول بطريقة غير مباشرة انتشرت مؤخرا بقوة.
“لا أملك المال لشراء الدواء.. مسافر وأحتاج للمال”
فور جلوسك بإحدى المقاهي بقلب مدينة عنابة، أو بوسط البلديات المجاورة خاصّة، يتقدم إليك أحد المتسولين قائلا: “أخي ساعدني أرجوك لا أملك المال لشراك الدواء.. والطبيب أخبرني إن لم أشتره سيزداد مرضي”، هذه حيلة جديدة يعمد إليها عدد كبير من المتسولين رجالا كانوا أم نساء خاصّة العنصر النسوي، حيث تتقدم إليك إحدى السيدات وتبدأ في استعطافك بكلام الحاجة والعوز أملا في منحها بعض النقود، كذلك انتشرت مؤخرا إحدى الظواهر الغريبة في التسول أو لنسميها حيلة أخرى مبتكرة، وهي ادعاء المتسول أنه من ولاية مجاورة أو بلدية بعيدة ولا يملك المال والنقود لتذكرة الحافلة أو السيارة، آملا في مساعدته وكسب الأموال من المواطنين الذين تم استعطافهم، خلال الصعود إلى حافلات النقل الخاصّة أو العمومية، أو الجلوس في مكان بالقرب من مجموعة من المواطنين، ويضيف هذا المتسول بعض الحركات التمثيلية التي تكاد تصدق، مثلا البكاء ورفع للصّوت، واللطم بالنسبة للمرأة، وحكاية أخرى لطالما تكرّرت باستمرار سواء بالمساجد أو المحلات التجارية التي يقصدها المواطنون لاقتناء حاجياتهم، كما تجد شابا ثلاثيني أو رجلا أربعيني يستعطف المارة، يدعي أن ابنته أو أمه أو أحد أقربائه مريض أو مقبل على إجراء عملية جراحية، ويحتاج للدواء أو أموالا لإجراء عملية جراحية، مع إضافة بعض بهارات البكاء والنحيب استعطافا للناس.
محطات نقل المسافرين و”الكور”.. مواقع مميّزة
وقد أصبحت محطات نقل المسافرين بولاية عنابة، بالأخصّ محطات النقل الحضري وشبه الحضري، مواقعا هامة للمتسولين، حيث يقبلون عليها بكثرة وبطرق مبتكرة وحيل جديدة تكاد تصدق، البعض يدعي أنه مسافر ولا يملك المال والغريب في الأمر أنه يعاود ركوب الحافلات من حافلة إلى أخرى بنفس السيناريو، رغبة في الحصول على القليل من الدنانير من المواطنين، كذلك يعمد آخرون إلى التقدم من المسافرين واستعطافهم بالحاجة إلى الأكل والماء، وأنهم دون أكل طيلة 24 ساعة، والبعض الآخر وبمحطات النقل يتقدم إليك ليخبرك أنّ أبناءه الصغار لا يجد ما يطعمهم وما يلبسهم في هذا الشتاء، وبالنسبة لساحة الثورة بمدينة عنابة، فهي الأخرى تعاني ولا تزال تعاني إلى غاية كتابة هذه الأسطر من ظاهرة التسول، لكن الغريب في الأمر أنّ نفس الوجوه هي التي تستعطف المواطنين سواء قاطني الولاية أو القادمين إليها، واتخذوا من “الكور” مكانا للراحة، فيقبل عليه المتسول أحدهم يخبرك أنه يعاني الجوع والعطش في هذا البرد القارص، والأخرى تقول لك “أنا مريضة أرجوك أعطني قليل من المال لأجري عملية جراحية”، ليفاجئك ثالثهم بقول غريب “كشما تحن علينا” وكأنه رضي تماما بحالته واتخذ من التسول مهنة حياته لضمان قوت يومه، غير أنّ هذه السيناريوهات باتت مكشوفة للكثير من المواطنين بالأخص من يرتادون بصفة مستمرة على مقاهي ساحة الثورة، حيث باتت وجوه المتسولون مألوفة جدا لهم بالأخص لكبار السن.
بيع المناديل الورقية.. مهنة أم حيلة جديدة للاستعطاف
انتشرت خلال الآونة الأخيرة بقلب مدينة عنابة، ظاهرة لا يمكن تحديد معالمها، حيث يقبل بعض الشباب. كذلك بعض كبار السن على بيع المناديل الورقية بل ويستعطف الناس للشراء منه، حيث تقرّبت “أخبار الشرق” من أحدهم لمعرفة سبب بيع المناديل الورقية بطريقة تكاد تكون أشبه بالتسول، من خلال طلب الشراء منه بالقول “إشري عليا وأعطيني وش كتب ربي”، فيقول أحدهم إنّه بحاجة لهذا العمل لجمع القليل من المال الذي هو بحاجة إليه لأسباب خاصّة، لكن الغريب في الأمر أنه يستعمل طريقة يستعطف بها المارّة بالقول “عاونوني خاوتي راني محتاج” أو بالقول “أحكم عليا مترجعنيش”، وهنا يبقا المتتبع للشأن المحلي في حيرة من أمره وفي طريق طويلة لكشف حقيقة هؤلاء هل هم باعة حقيقيون للمناديل الورقية وجدوا من هذا العمل ملاذا لهم عوض مد اليد؟، أم أنهم متسولون ولكن بطريقة أكثر ابتكارا ومحترمة في أعين الناس تجلب لهم الأموال بطريقة تبعدهم عن الشبهات ونظرات الاستعطاف والشفقة.
قارورة ماء وحليب للأطفال.. ورقة رابحة للتسول
هذه السلوكيات تكون منتشرة بكثرة خلال الموسم الصيفي، حيث يتقدم إليك أحد المتسولين طالبا منك منحه المال لشراء قارورة ماء كونه يعاني العطش، الكثير من المواطنين يقعون في هذا الفخ، لكن الغريب في الأمر أنّ بعض المتسولين ينزعج فعليا عندما يقرّر المتصدق شراء قارورة ماء بنفسه للمتسول، فتجد هذا الأخير يفضل منحه المال ليشتري هو بنفسه، وكأنه يقول أعطني المال ولا شأن لك بي ليؤكد لك أنه متسول بالفطرة وليس محتاجا بالفعل. وعلى أزقة الطرقات والشوارع تجد سيدات يصطحبن أطفالا صغارا معهن لتخبرك أنّ ابنها لا يملك الحليب وقد يموت من الجوع، ووجب منحها القليل من المال لتشتري له الحليب، لكن فور أن يقرّر أحد المتصدقين مرافقتها لشراء الحليب لابنها خاصّة إذا كان رضيعا تبدي هذه السيدة انزعاجا كبيرا، وتقول أعطني المال وسأشتري بنفسي، لتؤكد لك مرة أخرى الحيل المبتكرة في التسول والمنتشرة بعنابة، كغيرها من الولايات الأخرى، التي تعاني من نفس الظاهرة، والتي أصبحت بالنسبة للكثير من المتسولين حرفة ومهنة أكثر منها طلبا للحاجة والعوز.
التسوّل.. احتقار للذات أم ظاهرة اجتماعية تحتاج الدراسة؟
يرى متتبعون وملاحظون للشأن المحلي لولاية عنابة، أنّ ظاهرة التسول قد انتشرت بقوة خلال الفترة الأخيرة، فأزقة الطرقات والشوارع، وعلى أبواب المساجد والمحلات التجارية، وكذلك بالساحات العمومية، والمطاعم وغيرها من الأماكن، يجدها المتسولون مواقعا هامة لطلب المال واستعطاف المواطنين، في حين يعلق مهتمون على أنّ هذه الظاهرة فعلا تحتاج الدارسة وتسليط الضوء عليها بشكل علمي ممنهج، لكشف حقيقة توجّه بعض الأفراد نحو هكذا سلوك، يراه الكثيرون احتقار للذات وكسر لقيمتها، وبين من يراه عادة يومية أصبحت بالنسبة للمتسولين كمصدر رزق له وقوت يومه ولربما الكثير منهم ليس أصلا بحاجة للتسول بل يتخذها مهنة استغلالية لا غير، وهنا ربما نحن بحاجة لتدخل متخصّصين في علم الاجتماع وعلم النفس لكشف حقيقة هذه الظاهرة من جانب نفسي واجتماعي، رغم أنّ السلطات العليا في البلاد والسلطات المحلية تقف دائما وتؤكد حرصها على مرافقة العائلات المحرومة والمعوزة بل تجنّدت لوضع برامج تضامنية وتكافلية ترافق هذه الفئات الهشّة ممن تتحرّى بشأن حالتها المصالح المختصّة، وفي ظل كل هذه آليات المرافقة والدعم والكف عن الحاجة والعوز، لماذا يفضل الكثير التسول واستعطاف الناس؟ لماذا لا يحترفون مهنة ولو بسيطة لكف نظرات الشفقة والرحمة من أعين المتصدقين؟.
أمير قورماط