أمي ألم يُطهى العشاء بعد !!
سيكون جاهزا قريبا يا عزيزي، استلقي في فراشك ريثما أكمل تجهيز المائدة
كعادتها أمي، بريئة لا تجيد الكذب، فإن زل لسانها فضحته الدمعة المتحجرة في مقلتيها.
تسللت خفية نحو القِدر لأتفحص الطعام الذي يطبخ منذ ثلاث ساعات، فإذا بي أجد ماء يغلي بفقاعات ضخمة !
لم أتفاجئ، لأنها ليست المرة الأولى التي تقوم والدتي بغلي الماء و اخبارنا بأنه طعام، فننتظره حتى نتعب ثم نغفوا و عصافير بطننا تصرخ.
جلست القرفصاء محاولا لملمة معدتي و لبثت على ذلك الحال بضعة دقائق، ثم لا أدري كيف حتى وجدتني تائها في شوارع أ.مريكا مندهشا برؤية العمارات التي تكاد تلامس الغيوم بطولها الفاره، و الحدائق الجميلة النظيفة متنوعة الأشجار و الأزهار التي لم تشهدها عيني قط، فهنا في “رام الله” لاشيء غير الخراب، والمخيمات التي لا تقي من برد ولا حر !! و رائحة الموت التي تزداد قوة يوما بعد يوم،
شدني منظر أطفالٍ بمثل سني وهم يلعبون في سكينة دون احتساب اغتيالات القصف المفاجئة، و يأكلون ما لذ و طاب، و الكثير من الحلوى !
بينما نحن في “رام الله” نشتهي حتى “خبز الطابور”، وقعت عيني على قارورة مشروب كوكا كولا الغازي، لوهلة شعرت بجفاف شديد في حلقي لا يرويه شيء غير ذلك المشروب !! و صدى بعيد بداخلي يردد : أيعقل أن هذه هي الجنة و تلك التي أعيش فيها و أهلي جحيم! دون سابق انذار شعرت بيد حنونة تربت على كتفي، استدرت فوجدته والدي الذي أخذته الحرب إلى الجنة . طوقني بذراعيه وأردف قائلا :
بل هذه بلاد الذين حولوا أرضنا لجحيم ليجعلوا أرضهم القذرة كالجنة، أما عن تلك القارورة فهي تضم بداخلها دماء الكثير من الأبرياء
بسذاجة طفل سألته :
هل عدت من الجنة للأبد يا أبي؟
بل عدت لآخذ آخاك معي وأرحل مجددا، و أنت أتركك لتعتني بوالدتك وأختك الصغيرة “يافا”
استفقت على صوت انفجار قوي، عويل النسوة وصراخ الأطفال، تملكتني حالة ذعر رهيبة، أين السكينة، الهدوء و والدي !! أيعقل أن كل ذلك كان مجرد حلم !
القصف مجددا ! أين أم..
قبل أن أتم جملتي دخلت أمي وهي تجر أقدامها وتحمل جثة مقلوعة الرأس . وبصوت تخنقه الغصص والعبرات راحت تدندن قائلة :
تراب أبوك ما نشف يا يُمَا، حرقولي قلبي عليك يا يُمَا، تركوك جثة بلا راس و دم يا يُما حتى استشهادك ما خلوني افرح فيه يا يُمَا، كآلة موسيقية قديمة مهترئة تصدر أنينا كلما لامسها أحد، كنت أنا كذلك كلما سمعت بحالة وفاة جديدة ولكن في تلك اللحظة بذات استجمعت قواي، اقتربت من والدتي وزمجرت بغضب قائلا:
أخي ذهب مع أبي إلى الجنة و دمه مخزن في قنينة الكوكا كولا
تركت طفولتي بداخل المخيم و غادرت لأبدأ رحلة البحث عن قارورات الكوكا كولا لتحطيمها و تحرير دماء الشهداء الأبرياء .
بقلم: رميساء بن دعاس من ولاية بومرداس