بقلم أكرم بوعشة
يعدّ كتاب “الأمم والقومية” للفيلسوف وعالم الاجتماع البريطاني إرنست غيلنر أحد أهم الأعمال التي تقدم تحليلا عميقا لظاهرة القومية من منظور اجتماعي وتاريخي، إذ يدرس تطور فكرة الأمة ودورها في تشكيل المجتمعات الحديثة.
في رحاب المجتمعات الزراعية، كانت الهوية تُستمد من روابط الانتماء الضيّقة، سواء كانت قبلية أو دينية أو ضمن النظام الإقطاعي الذي كان سائدا. لم يكن هناك آنذاك حاجة لهوية وطنية جامعة، فقد كانت الحياة تدور في سياق انتاجي ضيق، حيث التواصل والتنقل على نطاق محدود، والتعليم حكرا على نخبة قليلة تعيش في مناطق الحضر.
لكن مع اندلاع الثورة الصناعية تبدلت ملامح الحياة، وأصبح واقع الاقتصاد الصناعي الذي يوظف الأيدي العاملة الماهرة والمتجانسة، يتطلب نظاما تعليميا موحدا ولغة مشتركة، كأدوات أساسية لبناء قوة عاملة مُنتجة. وهكذا، مع انبلاج فجر الحداثة، بدأت البنى التقليدية كالقبيلة والدين تفقد بريقها، لتفسح المجال أمام القومية، كإطار جديد وواعد للوحدة والتماسك الاجتماعي.
القومية قوة دافعة في بناء مجتمعات حديثة ومتكاملة، تعمل على توحيد الثقافة لتصبح الروح التي تجمع الأمة، وتفوّض مؤسسات الدولة في تجسيد إرادة المجتمع وتعزيز وحدته. في الدول الحديثة، يصبح التجانس الثقافي ضرورة لضمان الاستمرارية والتقدم، ويبرز هنا دور التعليم باعتباره الأساس الذي يُبنى عليه هذا المشروع. التعليم لا يقتصر فقط على نقل المعرفة، بل يسهم في خلق فهم مشترك بين أفراد المجتمع واعتماد لغة موحدة تعزز الانتماء والهوية الوطنية. علاوة على ذلك، تُعتبر القومية عاملا أساسيا في تشكيل إدارة فعالة، تعتمد على كفاءات وطنية متعلمة وقادرة على قيادة مسيرة التنمية في مختلف القطاعات، مما يدفع المجتمع نحو مستقبل أكثر استقرارا وازدهارا.
يُخالف إرنست غيلنر في طرحه هذا التصور الشائع الذي يرى في القومية امتدادا طبيعيا للهويات العرقية والإثنية المتجذرة في التاريخ، فهو يرى أنها وليدة عصر الحداثة، ونتاج تحولات عميقة غيّرت وجه المجتمعات. القومية في نظره ليست قدرا محتوما، بل هي بناء اجتماعي دقيق تُشيِّده الدولة بعناية فائقة، مستخدمة أدوات متنوعة كنظام التعليم والإعلام واللغة الرسمية، لترسيخ دعائم الوحدة والانتماء.
لكن غيلنر ينبهنا أيضا إلى الوجه الآخر للقومية، فهي قد تتحول إلى منبع للخلاف والصراع، خصوصا في المجتمعات التي تتنوَّع فيها الثقافات، حيث يسعى كل فريق إلى إبراز هويته الوطنية على حساب الآخرين، مهددا بذلك نسيج المجتمع ووحدته.
رغم أن القومية قوة محركة في تشكيل الدول الحديثة، ورغم مساهمتها في إطلاق حركات التحرر من براثن الاستعمار، إلا أنها اليوم تواجه تحديا جوهريا يتطلب منها أن تتطور وتتجدد باستمرار. ففي عالم يسوده التنوع والانفتاح، لم يعد مفهوم التجانس الثقافي واللغوي الذي ارتكزت عليه القومية في الماضي كافيا. فالتأكيد المُفرط على التعليم المركزي الموحد وتبسيط تعقيدات المجتمع عبر تقديم صورة نمطية للأمة ككتلة متجانسة، يتجاهل التنوع الغني داخل المجتمع، سواء كان طبقيا أو جندريا أو إقليميا.
هذا التبسيط قد يُصعّب وضع معايير مُحددة للأصالة الوطنية، خاصة في المجتمعات المنفتحة ومتعددة الثقافات التي تحتضن أطيافا واسعة من الهويات والتجارب الإنسانية. لذا، فإن التحدي اليوم يكمن في إيجاد توازن دقيق بين الاعتزاز بالهوية الوطنية الجامعة واحترام التنوع الثقافي والاجتماعي، والانتقال من مفهوم القومية القائم على التجانس إلى مفهوم المواطنة الشاملة القائمة على الحقوق المتساوية للجميع في ظل مشروع الدولة الوطنية.