تمهيد صوفي
القراءة الصوفية تنطلق من كون العاطفة في الشعر ليست مجرد تجربة شخصية، بل انعكاس لعلاقة أوسع بين الذات والمطلق، بين الحضور والغياب، بين التجلي والحجاب. في هذا السياق، تتخذ قصيدة “جرعة عتاب” بعداً صوفيًا عميقًا، حيث لا يكون الحبيب مجرد إنسان، بل رمزًا للحضرة الإلهية أو للحقّ الغائب المتمنَّى، ويتحوّل العتاب إلى فعل تطهُّر، والبوح إلى رياضة روحية، والخذلان إلى امتحان للوصال الأعلى.
الحبيب كرمز للغيب أو المطلق
منذ البدء، يخاطب النص الرياح – عنصر طبيعي مرتبط بالروح والنفَس – وكأنها أرواح الأولياء أو نسمات من الحضرة الإلهية:
“عاتبيني يا رياحي وانثريني واسأليني / عن حبيبي كل حين”
في هذه الأبيات، يكتسب الحبيب طابعًا غيبيًا، فهو غائب لا يُدرك إلا عبر الوسائط (الرياح)، ما يجعله أقرب إلى صورة الحقّ المتعالي الذي تتشوق إليه الروح السالكة.
الحب الصوفي وخيانة العهد
في الصوفية، يتكرر مفهوم “نقض العهد” أو “الخذلان” كتجربة روحية يتعرض لها السالك في رحلته نحو المطلق:
“خنت وعدي خنت عهدي خنت دربي / خنتني بالحبِّ (فيني)”
هذه الخيانة ليست فقط خيانة عاطفية، بل يمكن تأويلها كخذلان الوجود أو العالم للروح المتأملة، أو كاختبار روحي يسلب المُحب إشراقاته ليختبر صدقه في المحبة، كما في “ليلة الحجاب” عند الحلاج أو “التجليات” عند ابن عربي.
الشعر كرياضة روحية
الملفت في النص أن الشاعرة تستدعي القوافي والشعر ذاته كوسيلة للتطهير:
“جرعة الشعر شرابي يا قوافي عانقيني / وارشفي أوراق جرحي وارشفيني”
تتحول القوافي إلى كائنات حية، تتعانق مع الذات الجريحة في طقس صوفي، يشبه المناجاة أو الذكر، ويتحول الجرح إلى كتاب يُتلى، وإلى شراب يروي:
“بسمة البوح شفائي وشفاهي / وشغافي وحنيني”
الشفاء هنا صوفي: لا دواء مادي، بل كشف لغوي روحي.
النفي بعد الإثبات – مرحلة الفناء
في النصف الأخير من القصيدة، تعمد الشاعرة إلى نفي وجود الحبيب، بعد أن أثبتته في بداية النص:
“كنتَ… كنتَ… كنتَ…”
ثم:
“لم تعد يا حبّ حبًا / لم تعد في الصدر قلبًا”
هذه الحركية (من الإثبات إلى النفي) تُحاكي مراحل السير الصوفي: إثبات الذات ثم فناؤها، إثبات الحضور ثم إدراك الغياب، وهو ما نجده عند ابن الفارض أو جلال الدين الرومي حين يصفان المحبوب بأنه “كان ثم لم يكن”، أو “قرب في البُعد وبُعد في القرب”.
الدعاء الختامي والتضرع
القصيدة تنتهي بصرخة تشبه التوسل الصوفي:
“يا حبيبي!
اوقفِ الصدَّ بدربي
واعطني قوسَ الجوابِ
وخذِ الشوقَ نحيبًا؛ واتلُ بالعينِ كتابي”
هنا نجد معجمًا صوفيًا متكاملًا: “الصدّ” (الحجاب)، “قوس الجواب” (الوحي/الإشارة)، “الشوق” (الوجد)، و”الكتاب” (اللوح المحفوظ أو الذات المتجلية).
و”اتلُ بالعين كتابي” تشبه مناجاة العارفين الذين يناجون الحق ليُظهر لهم إشارات الفتح أو يلقي إليهم أسرارًا من كتاب المحبة.
خاتمة صوفية
بهذا المنظور، تتحول “جرعة عتاب” إلى مناجاة روحية، لا لعتاب حبيب دنيوي فقط، بل لفتح حجاب عن وجود أعلى. الشعر هنا ليس سردًا لعلاقة مكسورة، بل ضربٌ من التحنان الصوفي، الذي يرى في الخيبة امتحانًا، وفي الألم ترقّيًا، وفي العتاب صورةً من صور الذكر. القصيدة بذلك تعكس سلوكًا روحانيًا أنثويًا شفيفًا، يسعى لا إلى استعادة المحبوب، بل إلى استعادة المعنى خلفه .
القصيدة
عاتبيني يا رياحي وانثريني واسأليني
عن حبيبي كلَّ حين
في شبابي ياحبيبي لا تلمني
خابَّ ظنّي في سنيني
ماتَ قلبي ووتيني
خنتَ وعدي خنتَ عهدي خنتَ دربي
خنْتَني بالحبِّ (فيني)
جرعةَ الشعرِ شرابي يا قوافي عانقيني
وارشفي أوراق جرحي وارشفيني
بسمةُ البوحِ شفائي وشفاهي
وشغافي وحنيني
ثورة الشوقِ احتضاني واحتوائي
وانفعالي وجنوني
** ** **
لا تقلها دللّيني بعدَ غاراتِ الظنونِ
لا تقلها أنتِ حبّي بعدَ ارهاقِ الجفون
لا تقلها أنتِ حضني حطّمَ الوهم جنوني
كنتَ حسِّي ؛وشعوري ؛ كنتَ همسي وسروري ؛كنتَ نصي وارتجالي،
كنتَ عيدي ونَشيدي ومَناراتِ الليالي
كنتَ صبري ؛ كنت دربي ؛ كنتَ شِعري.وابتهالاتِ الجمالِ ..
لم تعُدْ ياحُبَّ حُبٍّا؛ لم تعدْ في الصدرِ قلبًا
لمْ تعُدْ ظَِلَّ خيالي
يا حبيبي!
اوقفِ الصدَّ بدربي
واعطني قوسَ الجوابِ
وخُذِ الشوقَ نحيبًا؛ واتلُ بالعينِ كتابي