بقلم أكرم بوعشة
ما أن نتلفظ بكلمة التيفاشي، حتى تحيلنا الذاكرة إلى شخصية شهاب الدين أحمد، الفيلسوف المسلم وعالم الاجتماع والقانون من العصور الوسطى الذي اشتهر أكثر ببحثه في المعادن والأحجار الكريمة وهي من نوادر الدراسات في عصره، وتحمل عديد المؤسسات الثقافية والتربوية والنوادي الأدبية في الجزائر اسمه، ويذكر في كثير المحاضر المعرفية والعلمية بكثير من الإجلال.
لكن، يحدث أن يقف شخصين بنفس لقب الشهرة على ضفتين متباعدتين، يحمل كلٌّ منهما روح الزمان الذي يخصّه، ويشتركان في إرث الأرض الخصبة (تيفاش) التي منحت العالمين، الإسلامي والمسيحي، اسمين عالميين امتدّ رصيدهما إلى أكثر من مجال معرفي واحد. التيفاشي المسلم نعرفه، صال وجال بين عوالم المعرفة. أما المسيحي، لربما تسمعون عنه الآن لأول مرة، يدعى كايوس ماريوس فيكتورينوس.
هذا الفيلسوف والنحوي واللاهوتي شغل الساسة وعلماء الدين وفلاسفة زمنه، فقد اعتبره السياسي الروماني الشهير أنيسيوس بويثيوس “أعظم خطيب في عصره”، وخصّه القديس جيروم، الذي وضع شخصيا النسخة الرسمية للإنجيل ‘الفولغاتا’، بالفصل الحادي بعد المئة من كتابه ‘عن الرجال المشهورين’ بالقول الصريح “كان فيكتورينوس الافريقي يعلّم الخطابة في روما على عهد قسطنطينوس، وحين بلغ شيخوخة متقدمة وصار مسيحيا، وضع ضد آريوس كتابات غامضة جدا، إلى حدّ أن ذوي العلم وحدهم من كان بمقدورهم فهمها بسبب الأسلوب الذي يستخدمه”.
خلّف مواطنه أوغستين بعض الإشارات التاريخية عن مساره وحياته في كتاب ‘الاعترافات’ بالقول “ذلك الشيخ الأكثر علما والمُلمّ بجميع العلوم الحرة، الذي قرأ وحلل الكثير من الفلاسفة، وعلّم العديد من أعضاء مجلس الشيوخ النبلاء، حصل باستحقاق على تمثال في فوروم روما اعترافا بإنجازاته التعليمية المتميزة”. هذا الاستحقاق أكده جيروم في كتاب ‘الوقائع’ بالقول “كان فيكتورينوس الخطيب، ودوناتوس، معلمي النحو، يُعتبران شخصيات بارزة في روما؛ من بينهما استحق فيكتورينوس أيضا تمثالا في منتدى تراجان”. هذا الشرف الذي ناله سنة 353م، أي تنصيب تمثال على شرفه في فوروم ترجان بقلب روما، لم سبقه إليه إلا الملك يوبا الثاني، وهو يعبّر عن مكانته الرفيعة كمعلم للنخبة من أعضاء مجلس الشيوخ وكبار المفكرين.
أما عن حياته، فقد ولد فيكتورينوس في 300م، وتلقى تأهيله التعليمي في نوميديا قبل أن ينتقل إلى روما في 340م. هناك، أعجبت نخب المجتمع الروماني بأسلوبه الفكري واللغوي الذي يحمل بصمة أصيلة غير معهودة في الوسائط الثقافية المحلية بروما. ولذا امتهن البلاغة، ودرس الأسر النبيلة وأعضاء مجلس الشيوخ الروماني وأهاليهم فنون الخطابة. كما كتب عديد الأعمال النحوية والبلاغية التي أصبحت فيما بعد أساسا لدراسات العصور الوسطى، ومنها الكتاب الشهير ‘فن النحو’ و ‘تعليقات على نصوص شيشرون’ وترجمات لمؤلفات أرسطو وبورفيريوس، و ‘أعمال في الميتافيزيقا: ترجمات وشرح على كتب الأفلاطونية الحديثة.
اعتنق فيكتورينوس الديانة المسيحية بين سنوات 353م-359م وهو شيخ عجوز، وكرّس كل طاقته الفكرية للدفاع عن الإيمان الكاثوليكي. وأصدر عديد المؤلفات منها ‘ أعمال حول الثالوث، الكلمة، والروح القدس’، ‘رسائل لاهوتية’، ‘عن ولادة الكلمة الإلهية’، ‘أربعة كتب ضد آريوس’، ‘عن قبول الجوهر الواحد’، ‘تفسيرات لرسائل بولس’، ‘قصيدة عن المكابيين’، ‘عن الفيزياء’، ‘كتاب إلى جستينوس المانوي’، وأعمال أخرى عديدة.
وفي عام 362م أصدر الامبراطور جوليان المرتد مرسوما يقضي بمنع المسيحيين من تدريس الأدب والخطابة، مما أجبر فيكتورينوس على التخلي عن مدرسته البلاغية في روما. يقول أوغستين في الاعترافات “في زمن الإمبراطور جوليان، تم منع المسيحيين بموجب قانون من تدريس الأدب والخطابة. وقد تبنّى فيكتورينوس هذا القانون، مفضلًا التخلي عن مدرسته الخطابية الصاخبة بدلا من أن يتخلى عن كلمتك …”.
تحول فيكتورينوس التيفاشي إلى المسيحية في شيخوخته كان له أثر بالغ على مساره الفكري، إذ دفعه ذلك إلى استخدام مهاراته البلاغية الفائقة للدفاع عن الإيمان المسيحي ضد التيارات الفكرية المعارضة، لا سيما الفكر الآريوسي الذي كان يشكل تحديا لاهوتيا في ذلك الزمن.
تميّز أسلوبه بالتعقيد، حيث اعتمد في تفسيره للاهوت المسيحي على التقاليد الأفلاطونية الحديثة، وقد وصفت كتاباته بأنها غامضة بسبب كثافة الأفكار وتجريدها، فضلا عن استخدامه مصطلحات فلسفية معقدة تمزج بين اليونانية واللاتينية. ومع ذلك، يُعتبر فيكتورينوس من أوائل المفكرين الذين قدّموا نهجا لاهوتيا شاملا يدمج بين الأفلاطونية الحديثة والإيمان المسيحي، مما وضع الأسس لمصطلحات لاهوتية لاتينية جديدة مثل “الجوهر” (substantia) و”الفرد”(individuum) وساهم في تكوين القاموس الفلسفي اللاهوتي الذي استخدمه المفكرون في العصور الوسطى.
توفي فيكتورينوس سنة 370م، لكن بقي إرثه حيا في الأوساط الأكاديمية إلى حدّ الساعة. ولعل أكبر أثر خلّفه ولا يزال حيا إلى حدّ الساعة هو كتاب ‘عن التعاريف: De Definitionibus’، إذ قام بضبط المصطلحات الدينية والفلسفية في سياقها اللاهوتي إلى أن أصبحت لغة الانجيل القائمة آنذاك ‘Vetus Latina’ قاصرة ومتهالكة وغير دقيقة. وحتى بعد وفاته ب 12 سنة، تسبّب للكنيسة في إحراج بالغ أمام اللغويين الرومان، ما دفع البابا داماسوس الأول سنة 382م إلى تكليف القديس جيروم بإعادة ترجمة النسخة القديمة بالاعتماد على ‘تعاريف’ فيكتورينوس ودراسات اللغة الحديثة، وكلل ذلك بإصدار نسخة جديدة للإنجيل سنة 405م تدعى الفولغاتا ‘Vulgate’ اعتمدتها الكنيسة حتى نهاية القرن العشرين.
لعلنا نستذكر فيكتورينوس، ليس فقط من باب معرفي، أو من باب الفخر بأصيل تيبازة (تيفاش)، ابن نوميديا (الجزائر)، بل لأن لنستذكر أمرا في غاية الأهمية، أنّ هذا الغرب المسيحي الذي يعادي بلدنا ويكابر علينا في كثير من الأحيان، يدين برفعته لنا بأكثر مما يتصوّره قادته.