استهلال:
………..
تغوص قصيدة “أمنيات بجروح مفتوحة” للشاعرة مجيدة محمدي في عمق الألم الإنساني الذي تعيشه الأم الفلسطينية، مستحضرة مزيجًا من الصور المجازية التي تعكس واقعًا تمزجه اللغة بالشعر والحقيقة بالرمز. تتجلى الاستعارة في النص كوسيلة تعبيرية مركزية تساهم في بلورة مشاعر الحزن، والفقد، والمقاومة، وتحوّل التجربة الفردية إلى تجربة جمعية إنسانية.
أولًا: الاستعارة في العنوان
………………………………
“أمنيات بجروح مفتوحة” عنوان يكثف ثيمة الألم من البداية، فالأمنيات، التي يفترض بها أن تكون حلمًا بالمستقبل، تصبح كائنات حيّة مثخنة بالجراح، ما يشير إلى أن حتى الأمل بات مجروحًا. إنها استعارة تمهّد لمناخ النص المأساوي، حيث لا شيء ينجو من الألم.
ثانيًا: تفكيك الاستعارات ودلالاتها
……………………………………..
1. “لستُ قديسةً تلفُّها هالاتُ الضوء، ولا نبيّةً تنشقُّ لها البحار”:
تنفي الشاعرة عن نفسها صفات المعجزة والقداسة، لتؤكد إنسانيّتها البسيطة، ما يضخم من حجم ما تتحمله. الاستعارة هنا تقوم على التباين بين قدرة خارقة ومنتهكة، لتمنح صورة المرأة العادية بطولية.
2. “تقصُّ على صغارها قصائدَ من رملٍ وجدرانٍ متداعية”:
تتحوّل القصيدة إلى شيء هش كالرمل، والذاكرة إلى جدران آيلة للسقوط. هنا، الاستعارة تعبّر عن هشاشة الذاكرة الفلسطينية المعاصرة، وعن انهيار الحلم الجمالي.
3. “تعدُّ الشظايا كما تُعدُّ العصافيرُ في هجرتها الأخيرة”:
مشهد سريالي يحمّل الشظايا طابعًا حيًّا، والعصافير تحضر كرمز للبراءة والمغادرة الأبدية. المشهد يخلط بين الفقد الجميل (الهجرة) والفقد المفجع (الاستشهاد).
4. “تحاول أن تخبئَ الزمانَ في جيبِ معطفِها المثقوب”:
الزمن يتحول إلى شيء مادي قابل للإخفاء، والمعطف المثقوب يرمز لعدم قدرة الأم على حماية أطفالها من الزمن الكارثي.
5. “يقفزَ الدمُ من عيون البراءة”:
تشخيص دموي للفقد، حيث الطفولة تُغتال، والبراءة لم تعد مأمنًا من العنف.
6. “كيف تكونُ الأمهاتُ جبهات”:
الأم هنا جبهة قتال، ما يمنحها صفة المقاومة ويُحوّل الأمومة إلى فعل صمود، في تماهي مع القضية الوطنية.
7. “تضعُ قلبَها في تابوت”:
قلب الأم يتماهى مع موت الطفل، في صورة مؤلمة عن الذوبان الكامل للأم في قدر أبنائها.
8. “الرصاصةِ أن تعتذرَ للطفل”:
تشخيص ساخر للرصاصة، كأنها كائن واعٍ، وفيه احتجاج رمزي على الصمت الدولي وعدم إنصاف الطفولة.
9. “قلبي يضاهي صهيلَ الجبال، وفي عيوني قنابلُ حبّ”:
صورة تجمع بين القوة والعاطفة، حيث يتحول الحب نفسه إلى أداة مقاومة، قادرة على “تفجير” الجمال في وجه القبح.
10. “اكتبْ على الصفحةِ الأولى… ولم يمت أحد”:
دعوة لإعادة كتابة التاريخ، واستعارة سردية تنقض الواقع وتبني حلمًا بديلًا، في مفارقة تجمع بين الفانتازيا والمرارة.
ثالثًا: البنية الإيقاعية والصوتية
……………………………………..
تمتاز القصيدة بإيقاع داخلي نابع من تكرار البنى النحوية، وتدوير الجمل، والتكرار الصوتي لبعض المفردات المفتاحية مثل: “يا الله”، و”خذ من عمري”، مما يعزز التوهج الشعوري للنص.
التكرار:
يتكرر النداء “يا الله”، وهو ليس فقط نداءً تعبديًا، بل بناء إيقاعي يعمّق البعد التوسلي والاحتجاجي في آن. كما يتكرر فعل “دعهم” في سلسلة من الطلبات التي تُكثّف من زخم الدعاء وتحوّله إلى نشيد أمومي جماعي.
الإيقاع الداخلي:
يعتمد النص على التنغيم الهادئ الذي ينكسر فجأة بصور صادمة (“قلبها في تابوت”، “الطفل لا يملك ساعة”)، ما يخلق تموجًا صوتيًا يتماشى مع التوتر النفسي الداخلي.
المقاطع الإيقاعية القصيرة:
تتكرر الجمل ذات البنية القصيرة، ما يخلق تتابعًا نغميًا يمنح النص روح المناجاة المأساوية. هذه التقنية تعكس تقطع النفس، وكأن النص يُكتب بين شهقة وأخرى.
التوازي الصوتي والبنائي:
التكرار البنائي لجمل مثل “خذ من عمري… وزد لهم” يصنع توازيًا موسيقيًا يجعل النص أقرب إلى التراتيل.
خلاصة تحليلنا
………………..
الاستعارات في قصيدة “أمنيات بجروح مفتوحة” لا تكتفي بنقل الألم بل تعيد صياغته وتكثيفه فنيًا. فهي ليست مجرد زخرفة بل أدوات تفجير دلالي، تدمج بين الذاتي والجمعي، وتحوّل اللغة إلى مساحة مقاومة. كما أن البنية الإيقاعية تلعب دورًا حيويًا في إبراز التوترات الداخلية للشخصية الأمومية، وتخلق توازنًا بين الغنائية والانفجار العاطفي. إن القصيدة مثال على كيف يمكن للشعر أن يعبر عن المأساة دون أن يفقد جمالياته، بل أن يجعل من الجمال ذاته موقفًا من العالم.
علاء الاديب
بغداد
النص
…….
” أمنيات بجروح مفتوحة”
مجيدة محمدي
يا الله،
لستُ قديسةً تلفُّها هالاتُ الضوء،
ولا نبيّةً تنشقُّ لها البحارُ وتتسعُ لها المعجزات،
ولا آدم، الذي وهبَ نبيّك داوودَ أربعينَ عامًا من فجرِ عمره،
أنا فقط ،
امرأةٌ تقصُّ على صغارها قصائدَ من رملٍ وجدرانٍ متداعية،
أمٌّ تشمُّ رمادَ ألعابهم،
تعدُّ الشظايا كما تُعدُّ العصافيرُ في هجرتها الأخيرة.
يا الله،
صوتُ الصواريخِ لا يقرأُ أعمارهم،
ولا يفرّق بين دفاترِ الحسابِ والعبواتِ الناسفة،
يركضُ الطفلُ نحو النور
فتأتيهُ من السماءِ نار.
أنا أمٌّ يا الله،
تعصرُ الوقتَ في كفّيها،
تحاولُ أن تخبئَ الزمانَ في جيبِ معطفِها المثقوب،
تحلمُ أن تكونَ الزهرةُ في غزة
أكثرَ من فصلٍ واحدٍ للعطر،
أن لا يموتَ الرضيعُ قبل أن يعرفَ اسمه.
خذْ من عمري،
خذهُ كما تأخذُ الريحُ الغصونَ اليابسة،
وزدْ لهم،
ازرعْ في قلوبِهم عُمْرًا إضافيًا،
دعْهم يكبرونَ دون أن يقفزَ الدمُ من عيون البراءة،
دعهم يشتهونَ أشياء بسيطة:
قطعة شوكولا،
أرجوحة،
سماء لا تسودها الطائرات.
يا الله،
إن لم يكن لي نصيبٌ في القداسة،
ولا خاتمُ النبوّة،
فاجعلْ من أمومتي دعاءً دائمًا،
أنا التي تعلّمتُ كيف تكونُ الأمهاتُ جبهات،
وكيف تُصنعُ المعجزاتُ من دموعِ الأرقِ
وسهرِ القلق.
أنا تلك التي تضعُ حليبَها في الزجاجةِ
وتضعُ قلبَها في تابوت.
يا الله،
أخبرني،
أما آنَ للظلِّ أن ينجبَ شمسًا؟
أما آنَ للحدادِ أن يخلعَ ثيابه؟
أما آنَ للرصاصةِ أن تعتذرَ للطفل؟
خذْ من عمري،
كلّه،
أنا لا أحتاجُه كثيرًا،
ما دام في غزة طفلٌ لا يملكُ ساعةً
ليرى كم من الوقتِ تبقى له
في حضنِ الحياة.
دعهم ينامون دون أن يوقظهم الموت،
دعهم يركضون دون أن تعثرَ أقدامُهم بجثثِ أحبّتهم،
دعهم يعرفون أن للغيمِ طعمَ المطر
لا رائحةَ البارود.
يا الله،
أنا فقطُ أمّ،
لكن قلبي يضاهي صهيلَ الجبال،
وفي عيوني قنابلُ حبّ
لو انفجرتْ،
لأزهرتْ كل الأرض
خذ من عمري،
وزد لهم،
ازرعهم من جديد،
أعدْ ترتيبَ الحكاية،
واكتبْ على الصفحةِ الأولى:
“كان يا ما كان…
في غزة،
كانوا،
وعاشوا،
وكبروا…
ولم يمت أحد.”،