وبعد الذكر والتسبيح لله رب الكون الفسيح، أكمل الشيخ الزاهد في هذه الدنيا كلامه وهو يقول :”فبعد أن صارت القصور بالخيرات والمسرات ومقصد القاصي والداني، أخذني الغرور وكلام المنافقين المعسول وزادت غيرة الحاسدين وقد كنت آنذاك غافلا عن ذكر الله والتقرب إليه بالصلاة والدعاء ليحفظني من شر الأشرار وكيد الفجار، فعمت الفوضى بالقصور وصارت الخسارة بالكثير ولا ربح حتى ولو قليل، ومرت شهور على تلك الحال إلى أن هب ذات يوم إعصار قصف بالليل و النهار وارتجت الأرض حتى دكت القصور وأهلكت الحدائق الفخمة والبساتين والحقول ولم أجد ثواب صلاتي ودعواتي ليخفف الله بها مأساتي، ولم يبق إلا أحجار تناثرت.” وهكذا أخذ الشيخ العليل يحكي قصته مع الحسد وكيف أن ابتعاده عن ذكر الله زاد في همه وبلواه. ثم إن الشيخ الطاعن في السن الذي أنهكه حسد وبغض الناس وقد بلغ من العمر آخره، نصح الإسكافي وهو يقول :”لا تثق إلا بمن جربته ولا تكلم إلا من أحسن مقامك وحفظ حقك وابتعد عن ملامك، ظلما وحسدا لأن الإخفاق في التقدير والاحترام لك، ليس عيبا منك لكن سوء الأنفس انقلابها للشر هي السبب في الضرر، واعلم أن الله سبحانه وتعالى هو القوي الجبار، خالق الكون مكور الليل والنهار فاستبشر بالرحمن في كل صلاة وأدع الله يحفظك ويتم نعمته وفضله عليك. شكر الإسكافي حينئذ الشيخ الفضيل على نصحه وحكمته وورعه وقد تعلم منه الكثير. “هكذا طلع الإسكافي من تلك الأرض وأكمل طريقه وهو يدعو إلى الله وينصح من لاقاه بالإيمان والدعاء لله سبحانه وتعالى .ولم يزل الإسكافي يسير في البرية مدة طويلة حتى بلغ أرضا كثيرة الأشجار والأثمار، بها وديان تجري وأنهار، فأتى الإسكافي شجرة وجلس تحتها، لكنه من شدة تعبه أخذه نوم عميق، وبينما الرجل غارقا في منامه إذ بطير اللقلق يدنو من عدته فيحملها ويطير بها عاليا إلى قمة بعيدة، ثم إن بلبلا كان بالمكان وقد تفطن لما صنعه طير اللقلق بالإسكافي، فطار إليه وحط على رأسه ثم قام ونقره بمنقاره، فقام الإسكافي منتبها من نومه وقد وقف على قدميه وما إن نظر قدامه حتى يرى أن عدته قد طارت مع اللقلق، فصار يصرخ على اللقلق الذي طار وهو في أشد غيظه وغضبه وبينما هو كذلك حتى حط البلبل بقربه وأخذ يحدثه ويقول :”ماذا تصنع يا أيها الغريب في هذا المكان العجيب حتى يصير لك كل هذا.”فأجابه الإسكافي :”والله عجبا في هذه الأرض، فطيور تنطق بالكلام ومنها لقلق يسرقني وأنا أنام.”فقال عندئذ البلبل :”اعلم يا إنسان أن غيظك على اللقلق مثل غيظي .”فرد عليه الإسكافي وهو يقول :”وكيف ذلك بحق الله.”فأجابه البلبل وهو يقول :”إن لي قصة طويلة معه وإن تخلصني اليوم من جيرته، يكون لك حسن الثواب .”فقال الإسكافي:”وماذا فعل بك اللقلق حتى تبلغ منه هذا الحد من البغضاء .”فأجابه البلبل وهو يتحسر على حاله:”كنت في ما مضى أعيش عيشة راحة وسرور في هذا الوادي الخصب، لكن حالي انقلب إلى التعاسة والقلق منذ أن اقتحم هذا اللقلق مكاني وصار يصول ويجول دون إستأذان وقبول .”وهكذا أخذ البلبل يحكي قصته مع اللقلق فقال :”لقد أذهب اللقلق حال رزقي بخبث وتدبير وقد صرت بسببه في حاجة وقد ولى شدى ألحاني وأصبحت قليل الغناء كثير الانطواء ومنذ ذلك الحين تحير أمري وزاد غمي واشتد بعدها حزني وهمي. “فتعجب الإسكافي مما جرى للبلبل الحزين دون غيره من الأطيار التي سكنت تلك البراري والقفار ورد عليه وهو يقول :”لا تجزع، فقليل الأصل والشهامة آخرته ندامة، وأعلم أن الظالم سيأتيه طاغية، طوعا أو كراهية .”ثم إن الإسكافي عزم على رد الجميل للبلبل الحزين وقد فرح البلبل لما سمع ذلك الكلام بعد أن طار إلى أعلى القمة بالوادي وأحضر عدة الإسكافي فإستعاد هذا الأخير لوازمه ثم قام إلى الوادي وإصطاد ثلاثة سمكات ثم شدهن إلى رباط ينتهي بشباك كان في عدة الإسكافي، وما إن رأى اللقلق الكسول السمكات حتى أخذه الطمع على الرغم من قدرته على الصيد بالوادي، فانطلق نحو الوليمة وانقض على السمكات يلتهمها حتى انطبقت عليه الشباك ووقع في شر ما فعل. فغضب الإسكافي كثيرا على اللقلق حينما سرق صيده الذي تعب وتعرق جبينه من أجله ونال منه الجهد الكثير، فتركه بالشباك يتخبط وقد حمله بعدئذ وسار به في طريق العودة إلى البركة ولم يزل الإسكافي يمشي ليل نهار مدة شهر كامل حتى بلغ المكان فطلعت عليه عفريتة الماء وهي تستقبله بالترحاب ودعاء الثواب فقالت :”لك مني حسن الجزاء وخير الثناء بعد ما خلصتني من عفريت البركة فقد أخذ قربة الماء وانطلق بها بعيدا عن الأجواء.”ثم أكملت الكلام وقالت بابتسام:”وإني وهبتك من اليوم فصاعدا كل كنوز هذه البركة وجميعها بسحر الجان ولا مثيل لها على مر الزمان .”اغتبط الإسكافي لما سمع ذلك الكلام و كونه لا يجيد السباحة والعوم فصار اللقلق ينزل كل مرة إلى أسفل البركة ويطلع منها وهو يحمل بمنقاره الأسماك من كل نوع ولون زعانفها من مرجان وصدفها من ألماس وصار الإسكافي يبيع منها للسلاطين والملوك وقد جنى من المال ما يكفيه لأجيال وقد صار في أرغد عيش في قصره المشيد قرب بركة الكنوز وهكذا صار الإسكافي إلى الفوز بعد أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الرازق يرزق من يشاء بغير حساب وهكذا شاعت الأخبار عن الإسكافي كونه صار شهبندر التجار، ولا يعلم أصحاب السوء أنه يبيع السمك المسحور لسلاطين وملوك القصور، فإشتد بعدها حسد أصدقاء السوء وصاروا بالنعمة كافرين وقالوا كيف سبقنا للغنى ونحن لا نزال في أفقر حال، وقد غفلوا عن قدرة الله في بسط أرزاق الناس من الحاجة إلى الإكتفاء .فصار هؤلاء يحومون كطير البوم ويحاولون معرفة تجارة الإسكافي التي لا تعرف الخسارة، فقام بعض الحاسدين من أصدقاء السوء وساروا في طريقهم خلف الإسكافي التاجر الوفي وقد لعبت بهم شياطين الأفكار وعزموا على النيل من الحظ السعيد وكل العيش الرغيد الذي صار فيه الإسكافي، وما إن حل الظلام وخلدت الأعين للمنام حتى طلعوا على خرج الإسكافي وأخذوه ظنا منهم أنه سبب ثراء شهبندر التجار فقال أحدهم:”علي أن أجد في هذا الخرج سبب النعم والثراء وما إن فتحوا الخراج حتى وجدوه خاويا فإحتاروا في الأمر وقالوا حينئذ:”ما حاجتنا الآن إلا بالبغلة.”فقاموا وأخذوا البغلة ومن شدة حسدهم وشرهم أخذوا يكلمون البغلة وهم يقولون :”يا بغلة الثراء والنعيم أطلعينا عن تجارة الإسكافي .”ثم إن البغلة لم تفقه في الأمر فإشتد غضب الحاسدين السارقين فأخذوا العصي وصاروا يضربون الدابة وقد ظلت تصيح بصراخ قوي وهي على وقع الضرب بالعصي، حتى تجمع الناس على صوت الصياح، وكان من بينهم الإسكافي الذي وجد بغلته ملقية على الأرض فثار غضبه وصاح عليهم وهو يقول :”ماذا تصنعون ببغلتي في هذه الساعة من الليل .”فقال الحاسدون وقد أنكروا فعلتهم في السطو:”لقد وجدنا الدابة شريدة في الفلاة، وما إن لمحناها حتى عرفنا أنها بغلتك وقلنا نوصلها لك لكنها رفضت الإنصياع فقمنا بضربها بالعصي.”ثم إن الإسكافي قام ورجع أدراجه مع البغلة والناس يتعجبون ويستغربون مما حصل تلك الليلة، فقد أدت الأطماع بالحاسدين إلى الفضيحة أمام جمع الحاضرين وباءت بهم سوء أفعالهم إلى ضحك الناس عليهم ويهم يضربون بغلة لا تفقه في شيء، فالشر في البشر داء ليس له دواء، ولم يزل الإسكافي الذي طلع مع بغلته من بلدته في تلك الليلة يسير حتى ابتعد وبلغ بعدها ما بلغ من المسير وكل ذلك وأصدقاء السوء الحاسدون له يتتبعون، وما إن أتى الإسكافي بركة الكنوز، حتى أتى إليه اللقلق فقام الإسكافي وقدم له وفير الطعام ثم جعله يغطس ويطلع بالسمك العجيب، فحمل الإسكافي صيده الثمين ومضى في طريقه يتاجر به عند الملوك والسلاطين، أما أصدقاء السوء الحاسدين فقد هزؤوا بما يفعله اللقلق والإسكافي وهم يقولون :”هذا الإسكافي لا يقدر على الغطس فرمى بطير هزيل ليجمع له صيده النحيل، أما نحن سنغطس ونحمل معنا كل صيد هذه البركة ولم يبقى للإسكافي شيء يصطاده.”ثم إنهم ألقوا بأنفسهم عندئذ في البركة لكنهم لم يقدروا على مياه البركة التي غلبتهم فصاروا يتخبطون حتى غرقوا. وهكذا نال أصدقاء السوء جزاء أفعالهم. وحسدهم بعدما أخذهم الحسد إلى سوء المنقلب.أما الإسكافي فباع كل مرة ما اصطاد للملوك والسلاطين وعاش في نعيم، ولم يزل ذاكرا لله متفكرا في خلقه وصنيعه سبحانه وتعالى وقد رزقه الله خيرا كثيرا.
إنتهى
