الأربعاء 9 أبريل 2025
أخبار الشرق

أوروال في أسطورة أبوليوس المادوري!

تُعدّ الأساطير من أقدم أشكال التعبير الإنساني، إذ تشكّلت عبرها محاولات البشر الأولى لفهم العالم والوجود والمعاناة. ومع مرور الزمن، تجاوزت الأسطورة كونها مجرد خرافة أو معتقد بدائي، فتحوّلت إلى مادة حيّة يعيد الأدب الاشتغال عليها، مستلهما رموزها، ومفككا بنياتها، وناسجا من خلالها رؤى جديدة عن الإنسان والكون. ويتعامل كثير من الكُتّاب مع الأساطير بوصفها حكايات شعبية تحمل أبعادا رمزية عميقة، وتعكس الصراعات النفسية والميتافيزيقية التي تواجهها الذات في مسارها نحو الفهم أو الخلاص. ومن هنا، أصبحت إعادة كتابة الأسطورة فعلا إبداعيا يضيء المعنى ويعيد مساءلة الثوابت الجمالية والفكرية الكامنة في النصوص القديمة.

الأساطير تُروى في ظاهرها للتسلية، لكنها في عمقها نصوص رمزية وفلسفية، تعكس صراعات الإنسان الداخلية والخارجية. من بين هذه الأساطير، تبرز قصة “كيوبيد وبسخيّة” التي سطرها الروائي الجزائري أبوليوس في القرن الثاني الميلادي ضمن روايته “التحولات” أو كما تعرف “الحمار الذهبي”، لتُظهر رحلة بسخيّة نحو الخلاص عبر مواجهات مع الآلهة والكائنات الأسطورية. هذه القصة تجاوزت منظورها الأصلي حين أعاد الكاتب البريطاني كلايف ستيبلز لويس تشكيلها في روايته “حتى نملك وجوها” (Till We Have Faces) عام 1956، مانحا الصوت لأوروال، الأخت الكبرى، ليقدّم قراءة جديدة تتجاوز مركزية بسخيّة وتفتح أفقا مختلفا للتأمل.

تبدأ قصة بسخيّة في الحمار الذهبي كأميرة يفوق جمالها حدود البشر، مما يثير غيرة فينوس، إلهة الجمال، التي ترى فيها تهديدا لسلطتها. بناء على نبوءة غامضة، تُترك بسخيّة على صخرة لمصير مجهول، وتُنقل إلى قصر ساحر يسكنه كيوبيد، إله الحب وابن فينوس، الذي يقع في حبها سرا ويزورها ليلا دون أن تكشف هويته. فضول بسخيّة يدفعها لرؤية وجهه، مما يكشف هويته ويؤدي إلى فراره، تاركا إياها تواجه غضب أمه، فينوس.

تبدأ هنا رحلة بسخيّة نحو الخلاص، إذ تُكلفها فينوس بمهام مستحيلة: فصل بذور مختلطة، جمع صوف ذهبي من خراف الشمس العدوانية، جلب ماء من نهر ستيكس المحروس بكائنات مرعبة، وأخيرا، استرداد علبة تحمل “جمال الآلهة” من العالم السفلي. في كل مرحلة، تتدخل كائنات أسطورية لإنقاذها. النمل يساعدها في فصل البذور، قصب النهر يرشدها إلى الصوف، ونسر زيوس يجلب الماء، مما يعكس تدخل القوى الخارقة لدعم إرادتها. وعندما تفتح العلبة المحرمة، تدخل في سبات عميق، فينقذها كيوبيد ويقنع زيوس بمنحها الخلود الإلهي. هكذا تتحول رحلتها إلى استعارة روحية للتطهر عبر الألم والتضحية.

في “حتى نملك وجوها” يعيد لويس صياغة الأسطورة من خلال أوروال، الأخت الكبرى القبيحة التي تحمل قلبا مشبعا بالحب والغيرة. تظهر أوروال كملكة محاربة ترعى بسخيّة كأم وأخت، وعندما تُزوج بسخيّة لإله غامض في قصر خفي، تشك أوروال في حقيقته، وتُقنع أختها برؤية وجهه، مما يؤدي إلى طرد بسخيّة ومواجهتها للتجارب.

لا تتبع القصة هنا مسار الخلاص الخارجي الذي صاغه أبوليوس، بل تركز على أوروال التي تمضي في رحلة نفسية عميقة، تواجه فيها شعورها بالذنب وصراعاتها مع الآلهة. يتكشف مسارها بوصفه صراعا داخليا يفضي إلى إدراك ذاتي، حيث تعي أن جمال بسخيّة يشكّل مرآة لعيوبها الخاصة. وفي لحظة تأملية، تدرك أن “الوجه” الذي تبحث عنه يرتبط بفهم ذاتها، لا الآلهة فقط. وبعكس الأسطورة الأصلية، يتجلى الخلاص في هذه الرواية عبر وعي الذات بالحقيقة، لا عبر تدخل كائنات خارقة.

يقدم أبوليوس بسخيّة كبطلة أسطورية تنتصر على التحديات بدعم قوى خارقة، في رحلة تنتهي بتحولها إلى إلهة، بوصفها نموذجا للكمال المتحقق بالصراع مع فينوس. أما لويس، فيصور أوروال كبطلة إنسانية تواجه مصيرها وحدها، متحررة من سحر الآلهة، ومتجهة نحو خلاص داخلي يقوم على التساؤل والمواجهة النفسية. بينما تحتفل قصة بسخيّة بالجمال والانتصار، تنقب قصة أوروال في مناطق الظل، وتعيد تعريف المعاناة بوصفها مسارا للمعرفة.

هذا التفاعل بين أبوليوس ولويس يبرز مرونة الأسطورة وقدرتها على التحول. في مقابل القراءات التقليدية للأسطورة، يقدّم لويس نموذجا نقديا يعيد مساءلة المعنى من داخل المرجعية الثقافية الغربية نفسها، فيحوّل الحكاية من قصة حب إلى نص فلسفي مفتوح على التأويل. فهل تُقرأ بسخيّة بوصفها رمزا للكمال المدعوم من الآلهة، أم أن أوروال، بصراعاتها النفسية، تُتيح فهما أعمق للخلاص؟

من “التحولات” إلى “حتى نملك وجوها”، يواصل الأدب حواره مع الأسطورة عبر الزمن. رواية أبوليوس تروي ملحمة ذات طابع فوقي، بينما يمنح لويس أوروال صوتا يعيد رسم العلاقة بين الجمال والمعاناة والوعي. ومن خلال ذلك، تتأكد الحقيقة القائلة إن الأساطير لا تُقرأ بصيغة واحدة، بل تتجدّد كلما أعاد كاتب الغوص في أعماقها.

بقلم أكرم بوعشة

مواضيع ذات صلة

كاتب السيناريو بلغيث عبد الهادي يكشف لـ “أخبار الشرق” : “تتويجي بالمرتبة الثالثة في مسابقة أوسكار المبدعين العرب الأدبية بمصر إنجاز هام للغاية بالنسبة لي” 

akhbarachark

وزارة الثقافة والفنون: إيداع ملف تسجيل “فن تزيين بالحلي الفضي المينائي اللباس النسوي لمنطقة القبائل” لدى اليونسكو

akhbarachark

“ليلة عابد” و”الطيارة الصفراء” في مهرجان “إطلالات على إفريقيا”

akhbarachark