إن العلاقات بين الناس تشبه الكائن الحي الذي قد يكون في عُنفوانه أو قد يطرأ عليه طارئ فيمرض أو قد يموت؛ ولو سألتني عن أخبث داء يُمرض العلاقات ويفتك بها، لقُلتُ سوء الظن، ولو سألتني عن أسوء قاتل يقتل العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان لردَدت حتى ينقطع صوتي “سوء الظن”؛ ذلك أنًّ سوء الظنّ إذا استحكم في قلب صاحبه واستشرى في نفسه جعله يرى الناس كومة من المخادعين والمُرائين الذين يبطنون عكس ما يظهرون ويقولون ما لا يفعلون، وجعله يُطلق حكمًا واحدًا معممًا على الجميع، كالطفل الذي يعتقد أن جميع الأباريق ساخنة لأن أحدها قد لسعه.
وما هكذا تبنى العلاقات؛ إن أساس بناء أي علاقة يكمن في حسن الظن، فقبل أن يجيءَ الودُّ وقبل أن تأتي الأُلفة وقبل أن تتحققَ المحبة يسبق كل هاته الأشياء حسن الظن، فهو التاج الذي تُكلّل به الروابط والأواصر، وهو الجسر الذي يربط بين القلوب والأرواح، ويصنع بينها الانسجام والتقارب؛ بينما سوء الظنّ فيخلق التنافر والتباعد والبغضاء، ويعكر صفاء القلوب وصدق المشاعر.
إن سيء الظن يتوهم أنه بذكائه وفطنتة وعبقريته التي لم يسبقه إليها أحد، لايثق في أحد من الناس ولا يأمن أحدا منهم، لكنه لا يدري بأنّه يسيء لنفسه ويسيء لغيره، ففي نفسه يعيش مضطربا تغمره المخاوف وتقتله الوساوس وتتعطل حياته وتجعله يتخيل ما لا يوجد ويرى الحقيقة صورة جميلة للخداع، أما في غيره فقد يَظلِم أنقى الناس فؤادًا وأصدقهم سريرةً وأنبلهم خلقًا وأصلبهمْ شَكيمة.
تقول لي يا صاحبي: إنني كثيرا ما أحسنت الظن فندمت، فأقول لك: تُحسن الظنَّ فتندم، خير من أن تسيئه فتظلم، والعرب قديما قالت: “أن تخطئ وقد أحسنت الظن، خيرٌ من أن تُصيبَ وقد أسأت الظن”.
وتقول لي يا صاحبي: إن أحسنتُ الظنّ بالجميع فالناس فيهم الكاذب والمخادع والمنافق، وأقول لك: أنت لست مطالبا بالتنقيب و البحث في نوايا النفوس، بل ينبغي أن تعامل الناس بما يَظهر من أقوالهم وأفعالهم، دون إيغال في النيات، أو تحسس في المقاصد، و-عمر بن الخطاب رضي الله عنه- يقول: “عاملوا الناس بما يُظهرونه لكم والله يتولى ما في قلوبهم” فالله وحده يعلم السرائر والضمائر والنيات، ويعلم السرَّ وأخفى {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}(طه:7)
اجتنب الظنّ يا صاحبي فإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم، وأحسن الظن بالناس تكسب قلوبهم، وتعش سليمَ القلب، مُتَّزنَ النَّفس، مرتاح الضمير، متينَ العلاقات، وقد صدق الشاعر حين قال:
أحسنْ بنا الظنّ إنّا فيكَ نحسنهُ
إن القلوبَ بحُسنِ الظنِ تنسجمُ
والمسْ لنا العذرَ في قولٍ وفي عملٍ
نلمسْ لك العذرَ إن زلتْ بكَ القدمُ
لا تجعل الشكّ يبني فيكَ مسكنهُ
إنّ الحياةَ بسوءِ الظنِّ تنهـدمُ.
وإن ساء ظنُّك يوما بأحدهم، تذكر يا صاحبي قول -النبي صلى الله عليه وسلم- لأسامة رضي الله عنه في القصة المأثورة:
“أفلا شَقَقْتَ على قَلْبِهْ؟”.
بقلم محمد لمين صمادي